فصل: الآية رقم ‏(‏31 ‏:‏ 32‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مختصر ابن كثير **


 سورة الأنعام

بسم اللّه الرحمن الرحيم

 الآية رقم ‏(‏1 ‏:‏ 3‏)‏

‏{‏ الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ‏.‏- هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون ‏.‏ وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون ‏}‏

يقول الله تعالى مادحاً نفسه الكريمة، حامداً لها على خلقه السموات والأرض قراراً لعباده، وجعل الظلمات والنور منفعة لعباده في ليلهم ونهارهم، فجمع لفظ الظلمات؛ ووحد لفظ النور لكونه أشرف، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏عن اليمين والشمائل‏}‏، وكما قال في آخر السورة‏:‏ ‏{‏وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله‏}‏، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ثم الذين كفروا بربهم يعدلون‏}‏ أي ومع هذا كله كفر به بعض عباده، وجعلوا له شريكاً وعدلاً، واتخذوا له صاحبة وولداً، تعالى الله عزَّ وجلَّ عن ذلك علواً كبيراً، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هو الذي خلقكم من طين‏}‏ يعني أباهم آدم الذي هو أصلهم، ومنه خرجوا فانتشروا في المشارق والمغارب، وقوله‏:‏ ‏{‏ثم قضى أجلاً وأجل مسمى عنده‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏ثم قضى أجلاً‏}‏ يعني الموت، ‏{‏وأجل مسمى عنده‏}‏ يعني الآخرة وهو مروي عن مجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والضحاك والسدي ومقاتل بن حيان وغيرهم وقال الحسن في رواية عنه‏:‏ ‏{‏ثم قضى أجلاً‏}‏ وهو ما بين أن يخلق إلى أن يموت ‏{‏وأجل مسمى عنده‏}‏ وهو ما بين أن يموت إلى أن يبعث وهو يرجع إلى ما تقدم، وهو تقدير الأجل الخاص، وهو عمر كل إنسان، وتقدير الأجل العام وهو عمر الدنيا بكمالها ثم انتهائها وانقضائها وزوالها وانتقالها والمصير إلى الدار الآخرة، وعن ابن عباس ومجاهد‏:‏ ‏{‏ثم قضى أجلاً‏}‏ يعني مدة الدنيا ‏{‏وأجل مسمى عنده‏}‏ يعني عمر الإنسان إلى حين موته، وكأنه مأخوذ من قوله تعالى بعد هذا ‏{‏وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار‏}‏ الآية‏.‏ ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏عنده‏}‏ أي لا يعلمه إلا هو، كقوله‏:‏ ‏{‏إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو‏}‏، وكقوله‏:‏ ‏{‏يسألونك عن الساعة ايان مرساها فيم أنت من ذكراها إلى ربك منتهاها‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم أنتم تمترون‏}‏، قال السدي وغيره‏:‏ يعني تشكون في أمر الساعة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو اللّه في السموات في الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون‏}‏ اختلف مفسرو هذه الآية على اقوال بعد اتفاقهم على إنكار قول الجهمية القائلين - تعالى اللّه عن قولهم علواً كبيراً - بأنه في كل مكان حيث حملوا الآية على ذلك، فالأصح من الأقوال‏:‏ أنه المدعو اللّه في السموات وفي الأرض‏:‏ أي يعبده ويوحده ويقر له بالإلهية من في السموات والأرض، ويسمونه اللّه، ويدعونه رغباً ورهباً إلا من كفر من الجن والإنس، وهذه الآية على هذا القول كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله‏}‏ أي هو إله من في السماء وإله من في الأرض، وعلى هذا فيكون قوله‏:‏ ‏{‏يعلم سركم وجهركم‏}‏ خبراً أو حالاً والقول الثاني ‏:‏ أن المراد أنه اللّه الذي يعلم ما في السموات وما في الأرض من سر وجهر، فيكون قوله ‏(‏يعلم‏)‏ متعلقاً بقوله‏:‏ ‏{‏في السموات وفي الأرض‏}‏ تقديره‏:‏ وهو اللّه يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الأرض ويعلم ما تكسبون، والقول الثالث ‏:‏ أن قوله ‏{‏وهو اللّه في السموات‏}‏ وقف تام، ثم استأنف الخبر فقال‏:‏ ‏{‏وفي الارض يعلم سركم وجهركم‏}‏ وهذا اختيار ابن جرير، وقوله‏:‏ ‏{‏ويعلم ما تكسبون‏}‏ أي جميع أعمالكم خيرها وشرها‏.‏

 الآية رقم ‏(‏4 ‏:‏ 6‏)‏

‏{‏ وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين ‏.‏ فقد كذبوا بالحق لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون ‏.‏ ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين ‏}‏ يقول تعالى مخبراً عن المشركين المكذبين المعاندين‏:‏ أنهم كلما أتتهم من آية أي دلالة ومعجزة وحجة من الدلالات على وحدانية اللّه وصدقق رسله الكرام، فإنهم يعرضون عنها فلا ينظرون إليها ولا يبالون بها، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏فقد كذبوا بالحق لما جاءهم فسوق يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون‏}‏، وهذا تهديد لهم ووعيد شديد على تكذيبهم بالحق، بأنه لا بد أن يأتيهم خبر ما هم فيه من التكذيب، وليجدن غبّه، وليذوقن وباله، ثم قال تعالى واعظاً لهم ومحذراً لهم أن يصيبهم من العذاب والنكال الدنيوي ما حل بأشباههم ونظرائهم من القرون السالفة، الذين كانوا أشد منهم قوة وأكثر جمعاً، وأكثر أموالاً وأولاداً واستعلاء في الأرض، وعمارة لها فقال‏:‏ ‏{‏ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لمن نمكن لكم‏}‏ أي من الأموال والأولاد والأعمار والجاه العريض والسعة والجنود، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وأرسلنا السماء عليهم مدراراً‏}‏ أي شيئاً بعد شيء، ‏{‏وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم‏}‏ أي أكرثنا عليهم أمطارا السماء وينابيع الأرض أي استدراجاً وإملاء لهم، ‏{‏فأهلكناهم بذنوبهم‏}‏ أي بخطاياهم وسيئاتهم التي اجترحوها، ‏{‏وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين‏}‏ أي فذهب الأولون كأمس الذاهب وجعلناهم أحاديث ‏{‏وأنشأنا من بعدهم قرناً آخرين‏}‏ أي جيلاً آخر لنختبرهم، فعملوا مثل أعمالهم فأهلكوا كإهلاكهم، فاحذروا أيها المخاطبون أن يصيبكم مثل ما أصابهم، فما أنتم بأعز على اللّه منهم والرسول الذي كذبتموه أكرم على اللّه من رسولهم، فأنت أولى بالعذاب ومعاجلة العقوبة منهم لولا لطفه وإحسانه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏7 ‏:‏ 11‏)‏

‏{‏ ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين ‏.‏ وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون ‏.‏ ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون ‏.‏ ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون ‏.‏ قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين ‏}‏

يقول تعالى مخبراً عن المشركين وعنادهم ومكابرتهم للحق ومباهاتهم ومنازعتهم فيه، ‏{‏ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس فلمسوه بأيديهم‏}‏ أي عاينوه ورأوا نزوله وباشروا ذلك، لقال ‏{‏الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين‏}‏، وهذا كما قال تعالى مخبراً عن مكابرتهم للمحسوسات، ‏{‏ولو فتحنا عليهم باباً من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نححن قوم مسحورون‏}‏ وكقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن يروا كسفاً من السماء ساقطاً يقولوا سحاب مركوم‏}‏، ‏{‏وقالوا لولا أنزل عليه ملك‏}‏ أي ليكون معه نذيراً، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر ثم لا ينظرون‏}‏ أي لو نزلت الملائكة على ما هم عليه لجاءهم من الله العذاب، كماقال اللّه تعالى‏:‏ ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين‏}‏ الآية، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً وللبسنا عليهم ما يلبسون‏}‏ أي ولو أنزلن مع الرسول البشري ملكاً، أي لو بعثنا إلى البشر رسولاً ملكياً، لكان على هيئة الرجل ليمكنهم مخاطبته والانتفاع بالأخذ عنه، ولو كان كذلك لالتبس عليهم الأمر كما هم يلبسون على أنفسهم في قبول رسالة البشريّ، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً‏}‏، فمن رحمته تعالى بخلقه أنه يرسل إلى كل صنف من الخلائق رسلاً منهم ليدعو بعضهم بعضاً، وليمكن بعضهم أن ينتفع ببعض في المخاطبة والسؤال، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم‏}‏ الآية‏.‏

قال الضحاك عن ابن عباس في الآية يقول‏:‏ لو أتاهم ملك ما أتاهم إلا في صورة رجل لأنهم لا يستطيعون النظر إلى الملائكة من النور، ‏{‏وللبسنا عليهم ما يلبسون‏}‏ أي ولخلطنا عليهم ما يخلطون، وقيل‏:‏ ولشبهنا عليهم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولقد استهزىء برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون‏}‏ هذه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم في تكذيب من كذبه من قومه، ووعد له وللمؤمنين به بالنصرة والعاقبة الحسنة في الدنيا والآخرة، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين‏}‏ أي فكروا في أنفسكم، وانظروا ما أحل الله بالقرون الماضية الذين كذبوا رسله وعاندوهم من العذاب والنكال، والعقوبة في الدنيا مع ما ادخر لهم من العذاب الأليم في الآخرة وكيف نجَّى رسله وعباده المؤمنين‏.‏

 الآية رقم ‏(‏12 ‏:‏ 169

‏{‏ قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون ‏.‏ وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم ‏.‏ قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين ‏.‏ قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ‏.‏ من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين ‏}‏

يخبر تعالى أنه مالك السموات والأرض وما فيهما، وأنه قد كتب على نفسه المقدسة الرحمة، كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال، قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏إن اللّه لما خلق الخلق كتب كتاباَ عنده فوق العرش‏:‏ إن رحمتي تغلب غضبي‏)‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه‏}‏ هذه اللام هي المطئة للقسم، فأقسم بنفسه الكريمة ليجمعن عباده ‏{‏إلى ميقات يوم معلوم‏}‏ وهو يوم القيامة الذي لا ريب فيه أي لا شك عند عباده المؤمنين، فأما الجاحدون المكذبون فهم في ريبهم يترددون‏.‏ عن ابن عباس قال‏:‏ سئل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن الوقوف بين يدي رب العالمين هل فيه ماء‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏والذي نفسي بيده إن فيه لماء، إن أولياء اللّه ليردون حياض الأنبياء، ويبعث اللّه تعالى سبعين ألف ملك في ايديهم عصي من نار يذودون الكفار عن حياض الأنبياء‏)‏ هذا حديث غريب، وفي الترمذي‏:‏ ‏(‏إن لكل نبي حوضاً وأرجوا أن أكون أكثرهم واردة‏)‏ وقوله‏:‏ ‏{‏الذين خسروا أنفسهم‏}‏ أي يوم القيامة ‏{‏فهم لا يؤمنون‏}‏ أي لا يصدقون بالمعاد ولا يخافون شر ذلك اليوم، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وله ما سكن في الليل والنهار‏}‏ أي كل دابة في السموات والأرض، الجميع عباده وخلقه وتحت قهره وتصرفه وتدبيره، لا إله إلا هو ‏{‏وهو السميع العليم‏}‏ أي السميع لأقوال عباده، لاعليم بحركاتهم وضمائرهم وسرائرهم، ثم قال تعالى لعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم الذي بعثه بالتوحيد العظيم وبالشرع القويم، وأمره أن يدعو الناس إلى صراط الله المستقيم‏:‏ ‏{‏قل أغير الله أتخذ ولياً فاطر السموات والأرض‏}‏ كقوله‏:‏ ‏{‏قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون‏}‏ والمعنى‏:‏ لا أتخذ ولياً إلا اللّه وحده لا شريك له فإنه فاطر السموات والأرض أي خالقهما ومبدعهما على غير مثال سبق، ‏{‏وهو يطعم ولا يطعم‏}‏ أي وهو الرزاق لخلقه من غير احتياج إليهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون‏}‏ الآية، وقرأ بعضهم ‏{‏هو يُطعِم ولا يَطْعَم‏}‏‏:‏ أي لا يأكل‏.‏

وفي الحديث عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال‏:‏ دعا رجل من الأنصار من أهل قباء النبي صلى الله عليه وسلم على طعام، فانطلقنا معه فلما طعم النبي صلى الله عليه وسلم وغسل يديه قال‏:‏ ‏(‏الحمد للّه الذي يطعم ولا يطعم، ومنَّ علينا فهدانا وأطعمنا وسقانا من الشراب، وكسانا من العري، وكل بلاء حسن أبلانا، الحد للّه غير مودع ربي ولا مكفي ولا مكفور ولا مستغني عنه، الحمد للّه الذي أطعمنا من الطعام وسقانا من الشراب وكسانا من العري، وهدانا من الضلال، وبصرنا من العمى، وفضلنا على كثير ممن خلق تفضيلاً، الحمد للّه رب العالمين‏)‏ ‏{‏قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم‏}‏ أي من هذه الأمة، ‏{‏ولا تكونن من المشركين قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم‏}‏ يعني يوم القيامة ‏{‏من يصرف عنه‏}‏ أي العذاب ‏{‏يومئذ فقد رحمه‏}‏ يعني فقد رحمه اللّه‏{‏وذلك هو الفوز المبين‏}‏، كقوله‏:‏ ‏{‏فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز‏}‏ والفوز حصول الربح ونفي الخسارة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏17 ‏:‏ 21‏)‏

‏{‏ وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير ‏.‏ وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير ‏.‏ قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون ‏.‏ الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون ‏.‏ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح الظالمون ‏}‏

يقول تعالى مخبراً‏:‏ أنه مالك الضر والنفع، وأنه المتصرف في خلقه بما يشاء لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه، ‏{‏وإن يمسسك اللّه بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير‏}‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده‏}‏ الآية‏.‏ وفي الصحيح أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يقول‏:‏ ‏(‏اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد‏)‏، ولهذا قال تعالى ‏{‏وهو القاهر فوق عباده‏}‏ أي هو الذي خضعت له الرقاب، وذلت له الجبابرة، وعنت له والوجه، وقهر كل شيء، ودانت له الخلائق، وتواضعت لعظمة جلاله وكبريائه وعظمته وعلوه وقدرته على الأشياء، واستكانت وتضاءلت بين يديه وتحت قهره وحكمه، ‏{‏وهو الحكيم‏}‏‏:‏ أي في جميع أفعاله، ‏{‏الخبير‏}‏ بمواضع الأشياء ومحالها فلا يعطي إلا من يستحق، ولا يمنع إلا من يستحق‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏قل أي شيء أكبر شهادة‏}‏ أي من أعظم الأشياء شهادة، ‏{‏قل الله شهيد بيني وبينكم‏}‏ أي هو العالم بما جئتكم به وما أنتم قائلون لي ‏{‏وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ‏}‏ أي وهو نذير لكل من بلغه، كقوله تعالى ‏{‏ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده‏}‏ قال ابن ابي حاتم عن محمد بن كعب في قوله‏:‏ ‏{‏ومن بلغ‏}‏ ومن بلغه القرآن، فكأنما رأى النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وروى ابن جرير عن محمد بن كعب قال‏:‏ من بلغه القرآن فقد أبلغه محمد صلى الله عليه وسلم وقال عبد الرزاق عن قتادة في قوله تعالى ‏{‏لأنذركم به ومن بلغ‏}‏ إن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏بلغوا عن اللّه فمن بلغته آية من كتاب اللّه فقد بلغه أمر الله‏)‏، وقال الربيع بن أنس‏:‏ حقُّ على من اتبع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن يدعو كالذي دعا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وأن ينذر بالذي أنذر‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أئنكم لتشهدون‏}‏ أيها المشركون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد‏}‏ كقوله‏:‏ ‏{‏فإن شهدوا فلا تشهد معهم‏}‏، ‏{‏قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون‏}‏، ثم قال تعالى مخبراً عن أهل الكتاب أنهم يعرفون هذا الذي جئتهم به كما يعرفون أبناءهم بما عندهم من الأخبار والأنباء عن المرسلين المتقدمين والأنبياء، فإن الرسل كلهم بشروا بوجود محمد صلى الله عليه وسلم ونعته وصفته وبلده ومهاجره وصفته أمته، ولهذا قال بعده‏:‏ ‏{‏الذين خسروا أنفسهم‏}‏ أي خسروا كل الخسارة، ‏{‏فهم لا يؤمنون‏}‏ بهذا الأمر الجلي الظاهر الذي بشرت به الأنبياء ونوهت به في قديم الزمان وحديثه، ثم قال‏:‏ ‏{‏ومن أظلم ممن افترى على اللّه كذباً أوكذب بآياته‏}‏ أي لا أظلم ممن تقوّل على اللّه فادعى أن الله أرسله ولم يكن أرسله، ثم لا أظلم ممن كذب بآيات اللّه وحججه وبراهينه ودلالاته ‏{‏إنه لا يفلح الظالمون‏}‏ أي لا يفلح هذا ولا هذا، لا المفتري ولا المكذب‏.‏

 الآية رقم ‏(‏22 ‏:‏ 26‏)‏

‏{‏ ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون ‏.‏ ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين ‏.‏ انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون ‏.‏ ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاؤوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين ‏.‏ وهم ينهون عنه وينأون عنه وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون ‏}‏

يقول تعالى مخبراً عن المشركين ‏{‏يوم نحشرهم جميعاً‏}‏ يوم القيامة فيسالهم عن الأصنام والأنداد التي كانوا يعبدونها من دونه، قائلاً لهم‏:‏ ‏{‏أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون‏}‏، كقوله تعالى في سورة القصص‏:‏ ‏{‏ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم لم تكن فتنتهم‏}‏ أي حجتهم إلا أن قالوا ‏{‏واللّه ربنا ما كنا مشركين‏}‏، قال ابن عباس‏:‏ أي حجتهم، وقال عطاء عنه‏:‏ أي معذرتهم، وكذا قال قتادة، وقال عطاء الخراساني‏:‏ ‏{‏ثم لم تكن فتنتهم‏}‏ بليتهم حين ابتلوا ‏{‏إلا أن قالوا واللّه ربنا ما كنا مشركين‏}‏، وقال ابن جرير‏:‏ والصواب‏:‏ ثم لم يكن قيلهم هذا القول الذي اختاره ابن جرير هو رواية ابن جرير عن ابن عباس عند فتنتنا إياهم اعتذاراً عما سلف منهم من الشرك بالله ‏{‏إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين‏}‏، وقال ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال‏:‏ أتاه رجل، فقال‏:‏ يا ابن عباس سمعت اللّه يقول‏:‏ ‏{‏والله ربنا ما كنا مشركين‏}‏ قال‏:‏ أما قوله‏:‏ ‏{‏واللّه ربنا ما كنا مشركين‏}‏ فإنهم رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الصلاة، فقالوا‏:‏ تعالوا فلنجحد فيجحدون، فيختم الله على أفواههم، وتشهد أيديهم وأرجلهم، ولا يكتمون الله حديثاً، فهل في قلبك الآين شيء‏؟‏ إنه ليس من القرآن شيء إلا ونزل فيه شيء، ولكن لا تعلمون وجهه، ولهذا قال في حق هؤلاء‏:‏ ‏{‏انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون‏}‏، كقوله‏:‏ ‏{‏ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون من دون الله قالوا ضلوا عنا‏}‏ الآية، وقوله‏:‏ ‏{‏ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلورهم أنكنة أين يفقهوه وفي آذانهم وقراً وأين يروا كل آية لا يؤمنوا بها‏}‏‏:‏ أي يجيئون ليستمعوا قراءتك ولا تجزي عنهم شيئاً لأن الله ‏{‏جعل على قلوبهم أكنة‏}‏ أي أغطية لئلا يفقهوا القرآن، ‏{‏وفي آذانهم وقراً‏}‏ أي صمماً عن السماع النافع لهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء‏}‏ الآية‏.‏

ونقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها‏}‏ أي مهما رأوا من الآيات والدلالات والحجج البينات والبراهين لا يؤمنوا بها، فلا فهم عندهم ولا إنصاف، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو علم اللّه فيهم خيراً لأسمعهم‏}‏ الآية، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى إذا جاءوك يجادلونك‏}‏ أي يحاجونك ويناظرونك في الحق بالباطل، ‏{‏يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين‏}‏ أي ما هذا الذي جئت به إلا مأخوذ من كتب الأوائل ومنقول عنهم قال السهيلي‏:‏ حيثما جاء في القرآن ذكر أساطير الأولين، فإن قائلها هو النضر بن الحارث بن كلدة، وكان قد دخل بلاد فارس وتعلم أخبار سبندياذ رستم الشيذ، ونحوها، فكان يقول‏:‏ أنا أحدثكم بأحسن مما يحدثكم به محمد، ويقول في القرآن‏:‏ اساطير الأولين‏:‏ ليزهد الناس فيها، وفيه نزل‏:‏ ‏{‏ومن قال سأنزل مثل ما أنزل اللّه‏}‏ وقتله النبي صبراً يوم أُحُد‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وهم ينهون عنه وينأون عنه‏}‏ في معنى ينهون عنه قولان، أحدهما ‏:‏ أن المراد أنهم ينهون الناس عن اتباع الحق وتصديق الرسول والانقياد للقرآن ‏{‏وينأون عنه‏}‏ أي ويبعدون هم عنه فيجمعون بين الفعلين القبيحين لا ينتفعون ولا يدعون أحداً ينتفع‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏وهم ينهون عنه‏}‏ يردون الناس عن محمد صلى الله عليه وسلم أن يؤمنوا به‏.‏ وقال محمد بن الحنفيه‏:‏ كان كفار قريش لا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم وينهون عنه، وهذا القول أظهر وهو اختيار ابن جرير‏.‏ والقول الثاني ‏:‏ رواه سفيان الثوري عن ابن عباس قال‏:‏ نزلت في أبي طالب، كان ينهى الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤذى، وقال سعيد بن أبي هلال‏:‏ نزلت في عمومة النبي وكانوا عشرة، فكانوا أشد الناس معه في العلانية وأشد الناس عليه في السر ‏"‏رواه ابن أبي حاتم عن سعيد بن أبي هلال‏"‏وقال محمد بن كعب القرظي‏:‏ ‏{‏وهم ينهون عنه‏}‏ أي ينهون الناس عن قتله‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وينأون عنه‏}‏ أي يتباعدون منه، ‏{‏وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون‏}‏ أي وما يهلكون بهذا الصنيع ولا يعود وباله إلا عليهم وهم لا يشعرون‏.‏

 الآية رقم ‏(‏27 ‏:‏ 30‏)‏

‏{‏ ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين ‏.‏ بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون ‏.‏ وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين ‏.‏ ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ‏}‏ يذكر تعالى حال الكفار إذا وقفوا يوم القيامة على النار وشاهدوا ما فيها من السلاسل والأغلال ورأوا بأعينهم تلك الأمور العظام والأهوال، فعند ذلك قالواك ‏{‏يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين‏}‏ يتمنون أن يردوا إلى الدار الدنيا ليعملوا عملاً صالحاً ولا يكذبوا بآيات ربهم ويكونوا من المؤمنين، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل‏}‏ أي بل ظهر لهم حينئذ ما كانوا يخفون في أنفسهم من الكفر والتكذيب والمعاندة وإن أنكروها في الدنيا أو في الآخرة، كما قال قبله بيسير‏:‏ ‏{‏ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا واللّه ربنا ما كنا مشركين أنظر كيف كذبوا على أنفسهم‏}‏، ويحتمل أنهم ظهر لهم ما كانوا يعلمونه من أنفسهم من صدق ما جاءئتهم به الرسل في الدنيا، وإن كانوا يظهرون لأتباعهم خلافه كقوله مخبرا عن موسى أنه قال لفرعون‏:‏ ‏{‏لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر‏}‏ الآية‏.‏ وقوله تعالى مخبراً عن فرعون وقومه‏:‏ ‏{‏وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً‏}‏ ويحتمل أن يكون المراد بهؤلاء المنافققين الذين كانوا يظهرون الإيمان للناس ويبطنون الكفر، ويكون هذا إخبار عما يكون يوم القيامة من كلام طائفة من الكفار، ولا ينافي هذا كون هذه السورة مكية، والنفاق إنما كان من بعض أهل المدينة ومن حولها من الأعراب، فقد ذكر اللّه وقوع النفاق في سورة مكية وهي العنكبوت فقال‏:‏ ‏{‏وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين‏}‏، وعلى هذا فيكون إخباراً عن قول المنافقين في الدار الآخرة حين يعاينون العذاب، فظهر لهم حينئذ غِبُّ ما كانوا يبطنون من الكفر والنفاق والشقاق، واللّه أعلم‏.‏

وأما معنى الإضراب في قوله‏:‏ ‏{‏بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل‏}‏ فإنهم ما طلبوا العود إلى الدنيا رغبة ومحبة في الإيمان، بل خوفاً من العذاب الذي عاينوه جزاء على ما كانوا عليه من الكفر، فسألوا الرجعة إلى الدنيا ليتخلصوا مما شاهدوا من النار، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون‏}‏ أي في طلبهم الرجعة رغبة ومحبة في الإيمان، ثم قال مخبراً عنهم‏:‏ إنهم لو ردوا إلى الدار الدنيا لعادوا لما نهوا عنه من الكفر والمخالفة، ‏{‏وإنهم لكاذبون‏}‏ أي في قولهم‏:‏ ‏{‏يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين، وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين‏}‏ أي لعادوا لما نهو عنه، ولقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا، أي ما هي إلا هذه الحياة الدنيا ثم لا معاد بعدها، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وما نحن بمبعوثين‏}‏، ثم قال‏:‏ ‏{‏ولو ترى إذ وقفوا على ربهم‏}‏ أي أوقفوا بين يديه ‏{‏قال أليس هذا بالحق‏}‏‏؟‏ أي أليس هذا المعاد بحق وليس بباطل كما كنتم تظنون ‏{‏قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون‏}‏ أي بما كنتم تكذبون به فذوقوا اليوم مسه ‏{‏أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون‏}‏‏؟‏

 

">الآية رقم ‏(‏31 ‏:‏ 32‏)‏">

الآية رقم ‏(‏31 ‏:‏ 32‏)‏

‏{‏ قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون ‏.‏ وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون ‏}‏

يقول تعالى مخبراً عن خسارة من كذب بلقائه وعن خيبته إذا جاءته الساعة بغتة، وعن ندامته على ما فرط من العمل، وما أسلف من قبيح الفعل، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها‏}‏ وهذا الضمير يحتمل عوده على الحياة وعلى الأعمال وعلى الدار الآخرة أي في أمرها، وقوله‏:‏ ‏{‏وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون‏}‏ أي يحملون‏.‏ وقال قتادة‏:‏ يعملون، وقال ابن أبي حاتم عن أبي مرزوق قال‏:‏ يستقبل الكافر أو الفاجر عند خروجه من قبره كأقبح صورة رأيتها أنتنه ريحاً، فيقول‏:‏ من أنت‏؟‏ فيقول‏:‏ أو ما تعرفني‏؟‏ فيقول‏:‏ لا واللّه، إلاّ أنَّ اللّه قبح وجهك وأنتن ريحك، فيقول‏:‏ أنا عملك الخبيث، هكذا كنت في الدنيا خبيث العمل منتنه، فطالما ركبتني في الدنيا، هلم أركبك ‏"‏أخرجه ابن أبي حاتم من حديث عمرو بن قيس عن أبي مرزوق‏"‏، فهو قوله‏:‏ ‏{‏وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم‏}‏ الآية، وقال السدي‏:‏ ‏(‏ليس من رجل ظالم يدخل قبره إلا جاءه رجل قبيح الوجه أسود اللون منتن الريح، وعليه ثياب دنسة حتى يدخل معه قبره، فإذا رآه قال‏:‏ ما أقبح وجهك‏!‏ قال‏:‏ كذلك كان عملك قبيحاً، قال‏:‏ ما أنتن ريحك‏!‏ قال‏:‏ كذلك كان عملك منتناً، قال‏:‏ ما أدنس ثيابك‏!‏ قال، فيقول‏:‏ إن عملك كان دنساً، قال له‏:‏ من أنت‏؟‏ قال‏:‏ عملك، قال‏:‏ فيكون معه في قبره، فإذا بعث يوم القيامة قال له‏:‏ إني كنت أحملك في الدنيا باللذات والشهوات، وأنت اليوم تحملني، قال‏:‏ فيركب على ظهره فيسوقه حتى يدخله النار، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو‏}‏، أي إنما غالبها كذلك، ‏{‏وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون‏}‏‏؟‏

 الآية رقم ‏(‏33 ‏:‏ 36‏)‏

‏{‏ قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ‏.‏ ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين ‏.‏ وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين ‏.‏ إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون ‏}‏

يقول تعالى مسلياً لنبيه صلى الله عليه وسلم في تكذيب قومه له ومخالفتهم إياه‏:‏ ‏{‏قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون‏}‏ أي قد أحطنا علماً بتكذيبهم لك حزنك وتأسفك عليهم، كقوله‏:‏ ‏{‏فلا تذهب نفسك عليهم حسرات‏}‏، كما قال تعالى في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏لعلك باخع نفسك إن لا يكونوا مؤمنين‏}‏، ‏{‏فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات اللّه يجحدون‏}‏ أي لا يتهمونك بالكذب في نفس الأمر، ‏{‏ولكن الظالمين بآيات اللّه يجحدون‏}‏ أي ولكنهم يعاندون الحق ويدفعونه بصدورهم، كما قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ إنا لا نكذبك، ولكن نكذب ما جئت به، فأنزل اللّه‏:‏ ‏{‏فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات اللّه يجحدون‏}‏ ‏"‏رواه الحاكم، وقال‏:‏ صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه‏"‏وقال ابن أبي حاتم عن أبي يزيد المدني أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي أبا جهل فصافحه، فقال له رجل‏:‏ ألا أراك تصافح هذا الصابىء‏؟‏ فقال‏:‏ واللّه إني لأعلم إنه لنبي، ولكن متى كنا لبني عبد مناف تبعا‏؟‏ وتلا أبو يزيد ‏{‏فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات اللّه يجحدون‏}‏‏.‏

وذكر محمد بن إسحاق عن الزهري في قصة أبي جهل حين جاء يستمع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم من الليل هو وأبو سفيان و الأخنس بن شريق ولا يشعر أحد منهم بالآخر، فاستمعوها إلى الصباح، فلما هجم الصبح، تفرقوا فجمعتهم الطريق فقال كل منهم للآخر‏:‏ ما جاء بك‏؟‏ فذكر له ما جاء به، ثم تعاهدوا أن لا يعودوا لما يخافون من علم شباب قريش بهم، لئلا يفتتنوا بمجيئهم، فلما كانت الليلة الثانية جاء كل منهم ظناً أن صاحبيه لا يجيئان لما سبق من العهود، فلما أصبحوا جمعتهم الطريق، فتلاوموا، ثم تعاهدوا أن لا يعودوا، فلما كانت الليلة الثالثة جاءوا أيضاً، فلما أصبحوا تعاهدوا أن لا يعودوا لمثلها، ثم تفرقوا، فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه، ثم خرج حتى أتى أبا سفيان بن حرب في بيته، فقال‏:‏ أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد‏؟‏ قال يا أبا ثعلبة‏:‏ واللّه لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها وما يراد بها، قال الأخنس‏:‏ وأنا والذي حلفت به، ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته، فقال‏:‏ يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد‏؟‏ قال‏:‏ ماذا سمعت‏؟‏ قال‏:‏ تنازعنا نحن وبنوا عبد مناف الشرف‏:‏ أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا‏:‏ منا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك هذا‏؟‏ واللّه لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه، قال‏:‏ فقام عنه الأخنس وتركه وروى ابن جرير عن السدي في قوله‏:‏

‏{‏قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون‏}‏، لما كان يوم بدر قال الأخنس بن شريق لبني زهرة‏:‏ يا بني زهرة‏:‏ يا بني زهرة إن محمداً ابن أختكم، فأنتم أحق من ذبَّ عن ابن أخته، فإنه إن كان نبياً لم تقاتلوه اليوم، وإن كان كاذباً كنتم أحق من كف عن ابن أخته، قفوا حتى ألقى أبا الحكم فإن غلب محمد رجعتم سالمين، وإن غُلب محمداً فإن قومكم لم يصنعوا بكم شيئاً‏.‏ فالتقى الأخنس وابو جهل، فخلا الأخنس بأبي جهل، فقال‏:‏ يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب‏؟‏ فإنه ليس ها هنا من قريش غيري يستمع كلامنا‏؟‏ فقال أبو جهل‏:‏ ويحك‏!‏ واللّه إن محمداً لصادق وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهبت بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش‏؟‏ فذلك قوله‏:‏ ‏{‏فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمن بآيات اللّه يجحدون‏}‏ فآيات اللّه محمد صلى الله عليه وسلم ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا‏}‏، هذه تسلية لنبي صلى الله عليه وسلم وتعزية له فيمن كذبه من قومه، وأمر له بالصبر كما صبر أولو العزم من الرسل، ووعد له بالنصر كما نصروا، وبالظفر حتى كانت لهم العاقبة بعدما نالهم من التكذيب من قومهم والأذى البليغ، ثم جاءهم النصر في الدنيا كما لهم النصر في الآخرة، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏ولا مبدل لكلمات اللّه‏}‏ أي التي كتبها بالنصر في الدنيا والآخرة لعباده المؤمنين، كما قال‏:‏‏{‏ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين* إنهم لهم المنصورون* وإن جندنا لهم الغالبون‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏كتب اللّه لأغلبن أنا ورسلي إن اللّه قوي عزيز‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ولقد جاءك من نبأ المرسلين‏}‏ أي من خبرهم كيف نصروا وأيدوا على من كذبهم من قومهم فلك فيهم أسوة وبهم قدوة، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإن كان كبر عليك إعراضهم‏}‏ أي إن كان شق عليك إعراضهم عنك ‏{‏فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء‏}‏، قال ابن عباس‏:‏ النفق‏:‏ السرب فتذهب فيه فتأتيهم بآية، أو تجعل لك سلماً في السماء، فتصعد فيه، فتأتيهم بآية أفضل مما أتيتهم به فافعل، وقوله‏:‏ ‏{‏ولو شاء اللّه لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين‏}‏، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً‏}‏ الآية، قال ابن عباس‏:‏ إن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى، فأخبره اللّه أنه لا يؤمن إلا من قد سبق له من الله السعادة في الذكر الأول‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما يستجيب الذين يسمعون‏}‏ أي إنما يستجيب لدعائك يا محمد من يسمع الكلام ويعيه ويفهمه، كقوله‏:‏ ‏{‏لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين‏}‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون‏}‏ يعني بذلك الكفار لأنهم موتى القلوب - فشبههم الله بأموات الأجساد، فقال‏:‏ ‏{‏والموتى يبعثهم اللّه ثم إليه يرجعون‏}‏، وهذا من باب التهكم بهم والإزراء عليهم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏37 ‏:‏ 39‏)‏

‏{‏ وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه قل إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون ‏.‏ وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون ‏.‏ والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ مخبراً عن المشركين أنهم كانوا يقولون لولا نزل عليه آية من ربه أي خارق على مقتضى ما كانوا يريدون ومما يتعنتون، كقولهم‏:‏ ‏{‏لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً‏}‏ الآيات، ‏{‏قل إن اللّه قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون‏}‏ أي هو تعالى قادر على ذلك ولكن حكمته تعالى تقتضي تأخير ذلك، لأنه لو أنزلها وفق ما طلبوا ثم لم يؤمنوا لعاجلهم بالعقوبة كما فعل بالأمم السالفة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفاً‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم‏}‏، قال مجاهد‏:‏ أي أصناف مصنفة تعرف بأسمائها‏.‏ وقال قتادة‏:‏ الطير أمة، والإنس أمة، والجن أمة‏.‏ وقال السدي‏:‏ ‏{‏إلا أمم أمثالكم‏}‏ أي خلق أمثالكم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ما فرطنا في الكتاب من شيء‏}‏ أي الجميع علمهم عند اللّه ولا ينسى واحداً من جميعها من رزقه وتدبيره سواء كان برياً أو بحرياً، كقوله‏:‏ ‏{‏وما من دابة في الأرض إلا على اللّه رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين‏}‏ أي مفصح بأسمائها، وأعدادها، ومظانها، وحاصر لحركاتها وسكناتها، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ثم إلى ربهم يحشرون‏}‏ عن ابن عباس قال‏:‏ حشرها الموت، والقول الثاني ‏:‏ إن حشرها هو بعثها يوم القيامة، لقوله‏:‏ ‏{‏وإذا الوحوش حشرت‏}‏‏.‏

عن أبي ذر قال‏:‏ بينما نحن عند رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا انتطحت عنزان، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏أتدرون فيم انطحتا‏؟‏‏)‏ قالوا‏:‏ لا ندري، قال‏:‏ ‏(‏لكن الله يدري وسيقضي بينهما‏)‏، قال أبو ذر‏:‏ ولقد تركنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وما يقلب طائر جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علماً ‏"‏رواه ابن جرير وأحمد وعبد الرزاق، واللفظ لأحمد‏"‏وفي الحديث‏:‏ ‏(‏إن الجمعاء لتقتص من القرناء يوم القيامة‏)‏ ‏"‏راه الإمام أحمد في المسند‏"‏وقال عبد الرزاق عن أبي هريرة في قوله‏:‏ ‏{‏إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون‏}‏ قال‏:‏ يحشر الخلق كلهم يوم القيامة، البهائم والدواب والطير وكل شيء، فيبلغ من عدل الله يومئذ أن يأخذ للجماء من القرناء، ثم يقول‏:‏ كوني تراباً، فلذلك يقول الكافر‏:‏ ‏{‏يا ليتني كنت تراباً‏}‏ الحديث روي موقوفاً هنا ومرفوعاً في حديث الصور وقوله‏:‏ ‏{‏والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات‏}‏ أي مثلهم في جهلهم وقلة علمهم وعدم فهمهم كمثل أصم وهو الذي لا يسمع، أبكم‏:‏ وهو الذي لا يتكلم، وهو مع هذا في ظلمات لا يبصر، فكيف يهتدي مثل هذا إلى الطريق أو يخرج مما هو فيه‏؟‏ كقوله‏:‏ ‏{‏وتركهم في ظلمات لا يبصرون* صم بكم عمي فهم لا يرجعون‏}‏، وكما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل اللّه له نوراً فما له من نور‏}‏ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏من يشأ اللّه يضلله ومن يشا يجعله على صراط مستقيم‏}‏ أي هو المتصرف في خلقه بما يشاء